فن

فيلم «A Real Pain»: الألم كلعنة متوارثة

فيلم يقدم أداءات تمثيلية متميزة، مرشح بقوة لجائزتي السيناريو والتمثيل في دور مساعد في حفل الأوسكار، لكن بجانب كل ذلك هناك فيل في الغرفة!

future جيسي أيزنبرج وكيران كالكان في فيلم «A Real Pain»

منذ بدأت جولات موسم الجوائز السينمائية في الدوائر الهوليوودية، يستحوذ كيران كالكان على جائزة أفضل ممثل مساعد، عن دوره في فيلم «ألم حقيقي - A Real Pain» من إخراج وتأليف جيسي أيزنبرج، الممثل الذي اتجه للإخراج حديثًا.

في فيلمه الثاني يصيغ أيزنبرج حكاية عن آلام الأجيال المتعاقبة، ويربطها بقصة خفيفة عن ديناميكيات عائلية مألوفة بين شابين أصدقاء وأبناء عم يقفان في مواضع مختلفة من التطور الشخصي، يبني فيلمه على  تلك الديناميكيات الثنائية بين شخصيته وشخصية كيران كالكان، في سيناريو يبدو مصممًا لاستعراض مواهب الاثنين التمثيلية الطبيعية، التي تجمع بين سماتهم الحقيقية؛ كلاهما ذا طاقة مميزة صوت حاد وميل للتحدث بسرعة بديهة وسرعة لغوية، وبين القدرة على قبس جوهر الشخصيات المكتوبة سلفًا وجعلها تبدو وكأنها غير مكتوبة، لذلك يرتبط وجود الفيلم في حيز تقاليد الفوز والخسارة السينمائية الهوليوودية بكونه فيلم يعلي الأداء التمثيلي على بقية العناصر السينمائية، حتى مع تناوله موضوع ذا طبيعة حساسة وآنية.

الألم العائلي الممتد

تدور أحداث «ألم حقيقي» حول رحلة سياحية، في نوع من السياحة غير المألوفة وهي سياحة الهولوكوست، يلتقي بينجي (كيران كالكان) بديفيد (جيسي أيزنبرج) ابن عمه بعد فترة طويلة لكي يقومان بالرحلة معًا، تحركهما تجاه القيام بها أخيرًا وفاة جدتهما دوري، الناجية من معسكرات التعذيب النازية، والتي تركت لهما مبلغًا للقيام بالرحلة والتعرف على تاريخ العائلة الأمريكية الآن والبولندية اليهودية أصلًا، تتضمن الرحلة السفر إلى بولندا بدءًا من وارسو مرورًا بلوبلين حتى ينفصل القريبين لزيارة منزل جدتهما بكرازينستاف، برفقة مجموعة يجمعها التاريخ العائلي المرتبط بالهولوكوست ومرشد بريطاني (ويل شارب) دارس للتاريخ اليهودي لكنه غير ذو صلة بالثقافة أو الديانة اليهودية، تتضمن الجولة تفقد أماكن حدوث واحدة من أكثر الأحداث تراجيدية في التاريخ الحديث، تضم تلك الزيارات أفران ومعسكرات التعذيب وغرف الغاز بجانب تفقد الأحياء اليهودية التاريخية في المدن البولندية والنصب التذكارية البطولية.

جيسي أيزنبرج وكيران كالكان في مشهد من فيلم «A Real Pain»

يرجع «ألم حقيقي» رحلة الهولوكوست إلى خلفية الأحداث ويدفع الديناميكيات الشخصية إلى المقدمة، يلقي بنا في قلب علاقة ديفيد وبينجي المرتبكة، التي يكمن ارتباكها في جوهر الخيارات الحياتية والطبائع الشخصية لكل منهما، يلمح الحوار، الذي يعتمد عليه الفيلم بشكل رئيسي لبناء شخصيته وحكايته إلى ماضٍ ليس ببعيد كان به أبناء العم متقاربين مثل الأخوة، فرقهم النضوج والاغتراب المعاصر للحياة، تزوج ديفيد من امرأة جميلة لا نرى وجهها طيلة أحداث الفيلم وأنجبا ابنًا مرتفع الذكاء يصاحبه على الفيديو أثناء رحلته، بينما يلف الغموض وجود بينجي، الشخصية الكاريزماتية الآسرة، المزعج والساحر في الآن نفسه، حتى يتدرج الكشف عن ألمه الشخصي، الألم الذاتي المعاصر الذي يتضاءل أمام آلام العائلة وآلام الماضي وآلام التاريخ الشخصي، يلمح السيناريو لمرور بينجي بنوبات اكتئابية كادت إحداها أن تودي بحياته، ويظهر على إثرها وعلى إثر فقده لجدته التي جمعته بها علاقة حميمة مشتت، مفرط النشاط وغير متوقع.

الأداء التمثيلي وموسم الجوائز

يلعب كيران كالكان شخصيته التي لاقى عنها استحسان لجان تحكيم الجوائز وردود الأفعال الإيجابية جماهيريًا ونقديًا بحساسية وفوضوية، هي شخصية مثل شخصيات قام بها من قبل تبدو مجمدة في زمن لا يتقدم، رجل بين الرجولة والمراهقة والطفولة، يتحرك جسده بحرية في المساحات العامة ويتلفظ بما في عقله دون تفكير، ذو طبيعة معطاءة لكنه قادر على إفساد طاقة المجموعة بصراحته المفرطة، يمكن افتراض أن بينجي هو امتداد لسمات كيران كالكان الشخصية، حتى أن ناقد فالتشر Vulture، نايت جونز، كتب مقالًا بعنوان هل يمكن أن يفوز كيران كالكان بالأوسكار لأداء شخصيته الحقيقية؟

لكن حتى مع وضع ذلك في الاعتبار فإن كالكان يلعب نسخة مختلفة اختلافًا طفيفًا من ذاته ومن شخصياته السابقة، أبرزها أدائه لشخصية رومان روي في مسلسل «الخلافة- Succession»، كلًا من بينجي ورومان يمران بصراع داخلي يتمظهر في فرط حركة ونشاط وشخصية شديدة الاجتماعية دون اعتبارات اجتماعية، لكن ما يفرق بين كالكان في الدورين هي اختلافات حريصة في الطاقة التي يتبناها، تجعل رومان شخصية تراجيدية منفرة لكن مثيرة للتعاطف، وتجعل بينجي شخصية آسرة قادرة على العطاء على الرغم من تراجيديتها، يظهر كالكان انكسار بينجي الداخلي في حالة من الفعل الدائم بل ويبدو حتى في أسوأ حالاته قادرًا على التحكم بنفسه وبالمجموعة التي يتفاعل معها اجتماعيًا.

تطرح هيمنة كالكان على موسم الجوائز شكلًا بديلًا من الأداءات التمثيلية التي سيطرت عليها سابقًا، حيث التحول الكامل الجسدي والصوتي هو المعيار للأداء التمثيلي مستحق الجوائز، بدلًا عنه يمكن أن يتلاعب الممثل بكاريزمته الشخصية وحضوره الطبيعي ويطوع ذلك لطرح شخصية جديدة، ذلك بالطبع في ظل وجود الأداءات التحولية الجاذبة للجوائز بشكل كلاسيكي، في فئات الممثل الرئيسي في أداءات مثل تيموثي شالاميه في دور بوب ديلان في فيلم «A Complete Unknown»، أو سيباستيان ستان في دور دونالد ترامب في فيلم «The Apprentice».

من فيلم جيسي أيزنبرج السينمائي «ألم حقيقي»

يلمع أداء كالكان في وجود أداء أيزنبرج الذي يمكن الجدال بأنه يؤدي نسخة أخرى من ذاته كذلك، يلعب أيزنبرج دور ديفيد الشاب المتحقق الذي لا يخلو من قلق، قلق مختلط بشفقة وحقد تجاه قريبه الذي يعيش على حافة الحياة، وقلق اجتماعي ظاهر متحفظ يتضاد مع انفتاح بنجي الواسع غير المتردد، يستقي كل من الشخصيتين من طاقة الآخر في شكل كلاسيكي من التضاد، الذي عادة ما يصاحب أفلام كوميديا الاصدقاء Buddy Comedy، لكن الفيلم يقدم نفسه ككوميديا درامية، خاصة باختيار التيمة الرئيسية سياحة الهولوكوست، يختار أيزنبرج استخدام الرحلة كخلفية عامة لمفهوم الأمل والتروما/ الصدمة الجيلية، كما يختار تناولها بخفة على طريقة وودي ألان، في كوميديا ثرثارة وشخصيات خلافية، يموضع أيزنبرج فيلمه ضمن شكل محدد من الأفلام المستقلة الامريكية التي تتخذ من ألان أستاذًا، فهو فيلم عن المدينة والناس، لكنه بشكل رئيسي عن الثرثرة أو يحدث من خلالها، يخفف ذلك الاتجاه من تراجيدية استكشاف تاريخ الإبادة الماضية، ويميل لأن يكون رسالة احتفائية بصلابة اليهود ذوو الخلفيات العرقية والقومية المختلفة، ونجاتهم الذي يدلل عليه وجود ذلك الجيل الثالث، الآن ينظر خلفه ويتأمل ماضيه بشجن وإعجاب.

الفيل في الغرفة

يبدو العالم الذي تدور فيه أحداث «ألم حقيقي» وكأنه عالم نقي من الحروب، عالم ما بعد العنف والكولونيالية، حيث انتهت الخلافات والإبادات العرقية وحان وقت تفقدها كجزء من ماض سحيق، ينظر إليه بمزيج من الألم والأمل، يثور بينجي في نوبات من الغضب بسبب عدم تناول المجموعة السايحة الألم بجدية، بسبب تعاملهم السطحي مع قبور حقيقية دفن بها ناس حقيقيون، أو مع معسكر لا تزال تغطي جدرانه بقع رواسب الغاز القاتل، يترجم بينجي ثوراته في كلمات تعرب عن ألمه وخجله كونه الآن شابًا أمريكيًا مدللًا في رحلة على متن طائرة وقطار داخلي يجلس في الدرجة الأولى، تثير المشاهد التي يتساءل بها الجيل الثالث للناجين من الإبادة عن امتيازاتهم الحالية إمكانية أن يطرق الفيلم مساحات أكثر شجاعة ووعي سياسي، يصبح الفيلم على وشك ذكر نتائج الإبادة العرقية الماضية أو الإسقاط على ما تبعها من إبادة عرقية جارية، لكنه يتجاوز تمامًا عن ذكر الدولة الإثنية المعاصرة لليهود وكأنها لما تخلق ويتجاهل الفيل في الغرفة، مكتفيًا باستكشاف كل فرد في الرحلة لتاريخه وعلاقته الشخصية مع الإبادة الماضية وعلاقة عائلته بها ومآلات كل عائلة في بلدان العالم المختلفة التي تصنع هوية يهودية معقدة.

يركب أيزنبرج فيلمه من جماليات بصرية وصوتية خافتة ومحدودة، تترك المساحة الأكبر للأداءات التمثيلية والجمل الحوارية، تستكشف الكاميرا والمونتاج -مدير التصوير ميشيل ديميك والمونتير روبرت ناساوـ المدن البولندية التاريخية دون محاولة للتأطير البصري المميز ويصبغ فيلمه بصبغة صفراء، شمسة نوستالجية تعطيه مظهرًا تلفزيونيًا أكثر منه سينمائي، متبنيًا شكلًا سينمائيًا حواريًا يعتمد على السيناريو أكثر من أي شيء آخر يمكن أن يشوش التركيز على الشخصيات، تصاحب المشاهد من بداية الفيلم لآخره مجموعة من مقطوعات البيانو للمؤلف البولندي فريدريك شوبان، يرتبط صوت موسيقى شوبان ببولندا وكذلك فرنسا، لم يكن المؤلف الشهير يهوديًا بل ربما كان حتى معاد للسامية، أصبحت موسيقاه مرتبطة بأيقونغرافيا تاريخ الهولوكوست على الشاشة بسبب فيلم عازف البيانو «The Pianist 2001» لرومان بولانسكي، في سياق ألم حقيقي يبدو الاستخدام جمالي أو ربما يحمل طبقة من السخرية المبطنة، لكنه خيار يحمل خيارات الفيلم الفنية بالكامل في صناعة سينمائية حريصة وتلفزيونية.

يتناول فيلم ألم حقيقي موضوع عام وخاص بشكل متوازٍ، يحاول من خلال الألم العام استكشاف الألم الذاتي، في صيغة سينمائية حوارية لا تدلف تحت سطح الألم التاريخي ولا العائلي، وتكتفي بصناعة عمل يسهل مشاهدته، بوتيرة سريعة وجمل حوارية إيقاعية، وأداءات تمثيلية تظهر طبيعية وكأن لا مجهود بذل بها.

# فن # سينما # السينما العالمية # موسم الجوائز السينمائية # أوسكار

صورة قابض الأرواح في السينما: كيف تغلب المخرجون على هاجس الموت
كيف يعيد فيلم «Flow» تعريف البقاء في عالم مغمور
مسار تيريزا الأزرق: رحلة عجوز في الأمازون

فن